فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}
الفاء للتّرتيب والتسبب على قوله: {إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13] ثمّ قوله: {إنك من المنظرين} [الأعراف: 15].
فقد دلّ مضمون ذينك الكلامين أنّ الله خلق في نفس إبليس مَقدرة على إغواء النّاس بقوله: {إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13] وإنّه جعله باقيًا متصرّفًا بقواه الشرّيرة إلى يوم البعث، فأحسّ إبليس أنّه سيكون داعية إلى الضّلال والكفر، بجبلةٍ قَلَبه الله إليها قَلْبًا وهو من المَسخ النّفساني، وإنّه فاعل ذلك لا محالة مع علمه بأنّ ما يصدر عنه هو ضلال وفساد، فصدور ذلك منه كصدور النّهش من الحيّة، وكتحرّك الأجفان عند مرور شيء على العين، وإن كان صاحب العين لا يريد تحريكهما.
والباء في قوله: {فبما أغويتني} سببيْة وهي ظرف مستقِر واقع موقع الحال من فاعل {لأقعدن}، أي أقسم لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي.
واللاّم في {لأقعدن} لام القسم: قصد تأكيد حصول ذلك وتحقيق العزم عليه.
وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التّعليل، وهو قريب من الشّرط فلذلك استحقّ التّقديم فإنّ المجرور إذا قُدم قد يفيد معنى قريبًا من الشرطيّة، كما في قول النّبي صلى الله عليه وسلم «كما تكونوا يُوَلَّى عليكم» وفي رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشّرط بعلامة الجزم فلم يرو «يولى» إلاّ بالألف في آخره على عدم اعْتبار الجزم.
وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلِّق، إذ كان هو السّبب في حصول المتعلَّق به، فالتّقديم للاهتمام، ولذلك لم يكن هذا التّقديم منافيًا لتصدير لام القسم في جملتها، على أنّا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب.
وما مصدريّة، والقعود كناية عن الملازمة كما في قول النّابغة:
قُعودًا لدى أبياتهم يَثْمدونهم ** رمَى اللَّهُ في تلك الأكُف الكوانع

أي ملازمين أبياتًا لغيرهم يُرِد الجلوس، إذ قد يكونون يسألون واقفين، وماشين، ووجه الكناية هو أنّ ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده، فيقعد الملازم طلبًا للرّاحة، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القَعيد، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق: 17] أي ملازم إذ الملَك لا يوصف بقعود ولا قيام.
ولمّا ضمن فعل: {لأقعدن} معنى الملازمة انتصب {صراطك} على المفعولية، أو على تقدير فعل تضمّنه معنى لأقعدن تقديره: فامْنَعَنّ صراطك أو فَأقْطَعَنّ عنهم صراطك، واللاّم في لهم للأجل كقوله: {واقعدوا لهم كل مرصد} [التوبة: 5].
وإضافة الصّراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللاّم أي الصّراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقًا لك، والطّريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره، وهو فعل الخيرات، وترك السيّئات، فالكلام تمثيلُ هيئة العازمين على فعل الخير، وعزمهم عليه، وتعرّض الشّيطان لهم بالمنع من فعله، بهيئة السّاعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقه قاطع طريق منعه من المرور فيه.
والضّمير في {لهم} ضمير الإنس الذين دلّ عليهم مقام المحاورة، التي اختصرت هنا اختصارًا دعا إليه الاقتصار على المقصود منها، وهو الامتنان بنعمة الخلق، والتّحذير من كيد عدوّ الجنس، فتفصيل المحاورة مشعر بأنّ الله لمّا خلق آدم خاطب أهل الملإ الأعلى بأنّه خلقه ليَعْمر به وبنسله الأرضَ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] فالأرض مخلوقة يومئذ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكةَ فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا: وهو قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} الآية وقد دلّت آية سورة الْحِجْر على أنّ إبليس ذكر في محاورته ما دلّ على أنّه يريد إغواءَ أهل الأرض في قوله تعالى: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين} [الحجر: 39، 40] فإن كان آدم قد خلق في الجنّة في السّماء ثمّ أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأنّ آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة، فعلم أنّه صائر إلى الأرض بعد حين، وإن كان آدم قد خُلق في جنّة من جنّات الأرض فالأمر ظاهر، وتقدّم ذلك في سورة البقرة.
وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس عَلِم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفععِ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد، فلذلك سُمِّيت أعمال الخير، في حكاية كلام إبليس، صراطًا مستقيمًا، وإضافه إلى ضمير الجلالة، لأنّ الله دعا إليه وارد من النّاس سلوكه، ولذلك أيضًا ألزم {لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم}.
وبهذا الاعتبار كان إبليس عدوًا لبني آدم، لأنّه يطلب منهم ما لم يُخلقوا لأجله وما هو مناففٍ للفطرة التي فطر الله عليها البشر، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير، وذلك ما أفصح عنه الجَعل الإلهي المشار إليه بقوله: {بعضكم لبعض عدو} [البقرة: 36]، وبه سيتّضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشّياطين وبين البشر الذين استحبُّوا الضّلال والكفر على الإيمان والصّلاح. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}
والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الَغّي وهو: الإهلاك، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {... فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيًّا} [مريم: 59]
وحين نقرأ {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله لكن هل يغوي ربنا أو يهدي؟. إن الله يهدي دلالة وتمكينًا، وسبق أن تكلمنا كثيرًا عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختارًا، ولم يخلقه مرغمًا ومسخرًا كالملائكة، ولأنه قد خلق مختارًا فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصي، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق مقهورًا. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضًا. وأنت أيها الشيطان الذي اخترت الغواية.
إذن فقول الشيطان: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} إنما يريد به الشيطان: أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له: لا، إن ربنا لم يغو؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي؛ لأن الله لو خلقه مرغمًا مقهورًا ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا؛ فقد خلقه على هيئة افعل ولا تفعل، واختار هو ألاّ يفعل إلا المعصية. {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16]
والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل؛ لأن المتحرك إما أن يكون قائمًا، وإما أن يكون قاعدًا، وإما أن يكون مضجعًا نائمًا. وأريح الحالات أن يكون نائمًا مضجعًا؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحًا بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعدًا تقاومه الجاذبية قليلًا، وحين يكون واقفًا فهو يحمل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلًا على قدميه: اقعد حتى ترتاح ولو قعد وكان متعبًا فيقال له: مضجع قليلًا لترتاح.
ولماذا اختار الشيطان أن يقول: {لأَقْعُدَنَّ}؟ حتى يكون مطمئنًا، فقد يتعب من الوقفة، أيضًا وهو في حالة القعود يكون منتبها متيقظًا، والحق يقول: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ...} [التوبة: 5]
ولم يقل: قفوا حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الاضجع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم}.
ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية. إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة؛ لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب.
إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير.
إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم: حينما أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول له: نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك هذا الوسواس فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة؛ لأنك لو كنت فاسدًا من البداية، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله...} [الأعراف: 200]